مشروع الدولة اليهودية النقية هو الهدف الذي وضعته القيادة الصهيونية نصب أعينها منذ أن بدأت بمشروعها الذي انطلق من أرض الشتات في مطلع القرن الماضي.
الدولة اليهوديه في صلب الفكر الصهيوني تعني الخلوْ من كل العناصر غير اليهوديه من البشر وبالطبع فإن العنصر العربي الفلسطيني يعتبر من الشوائب التي يتوجب لفظها خارج الدولة التي تضم شعب الله المختار وحده ولا تحتمل القبول بمن هو مصنف في التسمية اللاهوتية بـ(الغوامو) أي غير اليهودي لأن تحقق النقاء في الدولة اليهودية شرط أساسي لخروج المسيح أو (المشاياح) حسب تسميتهم.
إن القبول بمبدأ التعايش مع العرب يفرغ الدولة اليهوديه من معناها وبالتالي يؤدي إلى جعلها عرضة لغضب الرب، وكل قائد يسير في هذا الإتجاه بنيةٍ صادقة يستحق الإعدام لأنه يصبح خائناً عدواً لله وللشعب والعقيدة.
على هذا الأساس صدرت الفتوى التي أباحت دم رابين عندما كان على وشك توقيع إتفاق مع عرفات يسمح بقيام دولةٍ فلسطينية.
الأهم والأخطر من ذلك هو أن مفهوم الدولة النقية لا يقتصر على الدولة اليهودية المعروفة بحدود ما قبل حرب العام 1967، وإنما الأراضي الفلسطينية الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، أي كامل التراب الفلسطيني بما في ذلك قطاع غزة. وهذه الثوابت تلتزم بها كل القيادات الإسرائيلية ولم تحد عنها منذ إعلان الإستقلال، وهذا ما يفسر المراوغة المستمرة للحكومات الصهيونية المتعاقبة في الإلتزام بأي حل دائم لأنه يؤدي إلى كسر القاعدة التي تمثل العهد المقدس بعدم القيام بكل ما من شأنه أن يعيق أو يمنع قيام هذه الدولة النقية على كامل تراب أرض الميعاد، ولكن الحنكة والدهاء في السياسة تستدعي الإستمرار في المفاوضات من أجل تسخير عامل الزمن لتغيير الواقع على الأرض إلى أن يصل التغيير إلى الدرجة التي تجعل من قيام الدولة الفلسطينية أمراً مستحيلاً. لقد كانت رئيسة إحدى بلديات المستوطنات صريحة وشفافة في الإفصاح عن هذه الروية عندما سألها معد برنامج ساعة كاملة من شبكة cbs التلفزيونية عن المستوطنات والجدار العازل وقال إن هذه المستوطنات وهذا الجدار يجعل تنفيذ مشروع حل الدولتين أمراً مستحيلاً،فأجابت.. صدقت هذا بالضبط ما نعمل من أجله، ثم أخذت قبضة من التراب وعصرتها في يدها وقالت إن كل ذرة من هذا التراب هي جزء من دولة إسرائيل.
حقيقة الأمر التي لا تقبل المواربة، هي أن الفهم السائد لسدنة الحكم ومعظم الإسرائيليين في المجتمع اليهودي أن أرض إسرائيل في الحقيقة أكبر من حدود فلسطين التاريخية ولكن الفضاء الجغرافي لأرض إسرائيل لا يدخل ضمن الأرض التي لا تقبل التفاوض، أما أرض فلسطين فهي أرض إسرائيل وأرض إسرائيل لا تسمح بوجود غير اليهود ضمن شعبها المختار.
إذن هذا هو الخط الذي يشكل النهج الثابت في عقلية الطرف اليهودي الذي يصنف هذا الفهم على أنه جزء لا يتجزأ من العقيدة التي ينتمون إليها.
على الجانب العربي والفلسطيني لا تبدو الأمور أقل تساهلاً ولا أكثر ليناً مما هي عليه لدى الجانب الآخر، وإن بد الموقف الرسمي أكثر براغماتيةً من الشعوب التي لا تجيد المناورة ولا تخفي مشاعرها إزاء قناعاتها التي لا ترى أن هناك ما يدعوها للحذر في قولها والتعبير عنها بشكل صريح، على الأقل في نقاشاتها الجانبية سواء كان ذلك في الشارع أو في النوادي العامة التي لا تنتمي للإعلام الرسمي.
العالم العربي والإسلامي ليس أقل تشدداً في رؤية الأرض الفلسطينية أرضاً مقدسة وأن السيطرة عليها وإعادتها إلى أصحابها جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية كما هو الحال بالنسبة للعقيدة اليهودية، وكلا الطرفين ينظران لها من من نفس المنظار ولكن من إتجاهين متعاكسين، ففلسطين المحتلة بالنسبة للعرب والمسلمين تبقى جرحاً نفسياً وعاطفياً وقصوراً عقائدياً لا يستقيم إلا بإستعادتها وأن نسيانها أو إهمالها يعتبر خيانة لله وللإسلام، مع التساهل في قبول فكرة الإحتواء والتعايش مع العنصر غير المسلم بما في ذلك العنصر اليهودي دون التفريط بأمر السيادة العربية عليها، ولكن الألم المتراكم جراء القسوة البالغة في القتل والتدمير من قبل الطرف الآخر يضغط بشدة على قابلية التعايش ويثير لدى الكثيرين فكرة الإستثناء التام لوجود العنصر اليهودي بين ظهرانيها.
حتى القيادات العربية التي تبنت فكرة الحل السلمي ومبدأ القبول بفكرة الدولتين إنما تقوم بذلك تحت وطأة الضعف والتشرذم والرضوخ للأجواء السياسية الدولية السائدة التي تميل لصالح الطرف الآخر الذي أحسن إستغلالها وتوظيفها لتكريس واقع الغلبة وميل ميزان القوة لصالحه على كافة المستويات.
زياد علان العينبوسي نيويورك