الاحتجاج السلمي.. الاجتماعي والسياسي
بقلم: أ/ د. محمد حبيب
لا شيء في مصر على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي يبعث على الرضا؛ فكل الهموم تجمَّعت، وكافة الأوجاع تزاحمت وتراكمت وصارت جبلاً هائلاً يجثم على صدور المصريين على اختلاف مشاربهم ومآكلهم، وبات واضحًا ومستقرًّا لكل ذي عينين ألا أملَ في هذا النظام، وأنه يُعاني من شيخوخةٍ وتخلفٍ وترهلٍ وعجزٍ كامل على كافة الأصعدة والمستويات.. هو لا يريد أن يرحم المصريين المطحونين والمسحوقين أو حتى يرحم نفسه وشيخوخته.
لقد تعدى النظام عمره الافتراضي بكثير، ووهن عظمه، وتساقطت أسنانه، وآن له أن يتنحى جانبًا ويُفسح المجالَ للإرادة الحرة للشعب، فالمصريون يريدون أن يتنفسوا هواءً حرًّا؛ حيث طحنتهم الأزمات ولم تُبق لهم على شيء.. هم يشعرون أنهم يعيشون خارج إطار الزمن، فقد خارت قواهم وأنهكهم التلوث البيئي، والصحي، والعقلي، والبصري، واللا أخلاقي، وبالتالي حق لهم أن يغضبوا، وأن يُعبِّروا عن غضبهم بكلِّ الوسائل السلمية المتاحة حتى يُستجاب لمطالبهم.
غير أني ما زلتُ مقتنعًا بأنَّ الفوضى في التعبير عن الغضبِ تفقده تأثيره وفعاليته والهدف منه؛ إذْ على قدر ما يكون التعبير منظمًا من حيث الدوائر والمساحات التي يتحرك فيها، والقيادات الراشدة الموجودة على رأسه، والأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها، والوسائل المحددة، التي يتبعها- أقول- بقدر ما يُؤتي ثماره ويُحقق أغراضه.
ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عبر المؤسسات الشعبية والنقابية والعمالية والمهنية بشكلٍ عام.. مثال ذلك المئات من حركات الاحتجاج الاجتماعي التي تمت خلال العامين الماضيين، وكانت كلها- إلا فيما ندر- ناجحة بكل المقاييس.. صحيح أنها بدت وكأنها جزرٌ منعزلة، وأنها تعمل بشكلٍ لا مركزي، وأن السلطة تحاول أن تجعلها كذلك، لكنها تُمثِّل البداية التي لا بد منها على طريق المقاومة السلمية؛ فقد كانت كل حركة منها محددة المساحات والملامح والقسمات، قياداتها معروفة (وتحظى بمصداقية عالية، وبالتالي تتمتع باحترام وتقدير القواعد)، كما أن العناصر المشاركة فيها- برغم كثرتها- يعرف كلٌّ منهم الآخر، ويعرف تاريخه بحيث لو أراد مندسٌّ أن يوجد داخل الصفوف فسوف يكون مكشوفًا لمَن حوله، وتشير إليه كل الأصابع، وبالتالي يسهل إحباط محاولاته في التخذيل والاستدراج.
وقد علمتنا التجارب أن نحذر من هؤلاء الذين يُظهرون حماسًا غير عادي، وكذلك أولئك الذين جُل همهم أن يرصدوا ويرقبوا ما يفعله الآخرون، فتجدهم يتلفتون بطريقةٍ تُثير الشكوك والريب.
حركة الاحتجاج الاجتماعي- في كل ما سبق- اتبعت وسيلةً واحدة، ظاهرة وبارزة، وهي الامتناع عن العمل فترةً من الزمن إلى أن يُستجاب لمطالبها، وسواء بقيت في أماكن عملها أو لم تذهب إليه أصلاً فالتأثير يكاد يكون واحدًا، وبالتالي يمكن حساب أو قياس مظاهر النجاح أو الفشل، فإذا شارك في الامتناع عن العمل 90% أو 75% من الحجم الكلي فيقال إن حركةَ الاحتجاج قد نجحت، أو كان الامتناع أقل من ذلك بكثير فيقال إن حركة الاحتجاج لم تنجح.
إن وسيلةَ التظاهر إذا كانت مأمونةً فلا بأس، لكن التجاربَ دلَّت على أنه يمكن توظيفها واستثمارها من قبل الغوغاء أو البلطجية الذين يستهدفون الإساءةَ إلى حركة الاحتجاج عن طريق إتلاف المنشآت العامة والممتلكات الخاصة، وما يواكب ذلك من إحداث فوضى يختلط فيها الحابل بالنابل، ومن ثَمَّ يحتاج الأمر إلى تدقيق ودراسة لهذا الأمر قبل الشروع فيه.
وقد سبق أن قلت في مقالٍ آخر: إن كل الأزمات التي يُعانيها المواطن المصري من خبز، وبطالة، وصحة، ونقل، وغلاء، وتدهور في الأجور، وتعليم، كل ذلك تجليات لمرض عضال وأزمة مستحكمة هي أزمة الحكم المتمثلة في الاستبداد والفساد.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تحويل حركات الاحتجاج الاجتماعي إلى حركة احتجاجٍ سياسي؟ أو حتى على الأقل كيف يمكن المزج بين النوعين؟.
في تصوري.. إذا أمكن التنسيق بين حركتين- أو أكثر- للاحتجاج الاجتماعي فسوف يكون ذلك مؤثرًا وفاعلاً، وهو في نفس الوقت عمل سياسي بالدرجةِ الأولى؛ الأمر الذي يحتاج إلى تنادي الرموز الفكرية والوطنية والسياسية والعمالية والنقابية لبحث كيفية القيام به.
نعم ستكون هناك عوائق كثيرة، وستكون هناك ملاحقة ومطاردة من أجهزة النظام للحيلولة دون إتمام هذا الأمر، وربما قبل الشروع فيه.. فنحن نُفكِّر وهم أيضًا يُفكِّرون، لكن مع الإصرار والثبات والحركة المتوثبة يمكن تجاوز كل المعوقات، ومن قبل ذلك وبعده توفيق الله، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه.